ويتضح لكل ناظر في هذه المسألة أن الإيمان يزيد وينقص، وكل الفطر والعقول السليمة تقر بذلك، لكن غفل عن ذلك جميع أهل البدع الذين ضلوا في باب الإيمان.
والأصل المشترك الذي بنيت عليه ضلالات الفرق التي ضلت في باب الإيمان هو اعتقادهم أن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ ولا يتركب، ولا يزيد ولا ينقص.. هذا الأصل اتفقوا عليه، ثم أخذوا يطبقونه في الواقع؛ فـالخوارج عندهم أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص؛ وحين وجدوا أن أقواماً يسرقون ويزنون ويشربون الخمر، ويفعلون الموبقات، قالوا: كيف يكون عند هؤلاء الناس إيمان؟! فنفوا عنهم الإيمان مطلقاً، وجعلوهم كفاراً مرتدين، وأكثر فرق الخوارج غلواً في التكفير هم الأزارقة، أتباع نافع بن الأزرق، ثم بعد ذلك النجدات أتباع نجدة بن عامر الحنفي، وأخفهم وأقلهم غلواً الإباضية، هذه هي الفرق الثلاث الرئيسة، وتفرعت منها فرق كثيرة جداً.
وهذه شبهتهم؛ قالوا: كيف يزني ويشرب الخمر ويأكل الربا ويكون مؤمناً؟! الإيمان شيء واحد فقط؛ فإما أن يوجد كله، وإما أن يذهب كله، ولا يمكن أن يتبعض أو يتجزأ، ولا يتركب من شيئين أو أكثر، فهذا الذي فعل هذه الكبائر والموبقات خرج من الإيمان، وخرج من الدين.
ثم بعد ذلك أتوا بظواهر النصوص التي فيها نفي الإيمان عمن فعل شيئاً من ذلك، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن} لكن هذه الأدلة إنما أتوا بها بعد أن حكموا على القضية بعقولهم وآرائهم، ولذلك ردوا كل دليل يخالفها، وما وجدوه من الأدلة يوافقها في نظرهم أخذوا به.
أما المرجئة، فقالوا: من أكل الربا أو زنى أو سرق، أو شرب الخمر، أو عق والديه أو فعل غير ذلك من الكبائر؛ وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلي، وهو من أهل القبلة، فكيف يكون كافراً؟! والإيمان عندهم -أعني المرجئة - لا يزيد ولا ينقص، فقالوا: هو مؤمن، وإيمانه كإيمان أبي بكر وعمر، وذلك لأن الإيمان عندهم شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وعليه فإيمان أبي بكر كإيمان عمر، وهو كإيمان أفجر الفجار من أهل القبلة، فهو شيء واحد، فناقضوا بذلك العقول السليمة، والفطر القويمة، والنصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في تفاضل أهل الإيمان.
ثم جاءت المعتزلة بقول جديد لم تسبق إليه، وهو أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين؛ فلا هو مؤمن ولا هو كافر... إلى آخر ما سبق ذكره من قولهم في هذه المسألة.